فصل: تفسير الآية رقم (10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (9):

{وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)}
{وَقِهِمُ السيئات} أي العقوبات على ما روي عن قتادة، واطلاق السيئة على العقوبة لأنها سيئة في نفسها، وجوز أن يراد بها المعنى المشهور وهو المعاصي والكلام على تقدير مضاف أي وقهم جزاء السيآت أو تجوز بالسبب عن المسبب، وأيًا ما كان يتكرر هذا مع {وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم} [غافر: 7] بل هو تعميم بعد تخصيص لشموله العقوبة الدنيوية والأخروية مطلقًا أو الدعاء الأول للمتبوعين وهذا للتابعين، وجوز أن يراد بالسيآت المعنى المشهور بدون تقدير مضاف ولا تجوز أي المعاصي أي وقهم المعاصي في الدنيا ووقايتهم منها حفظهم عن ارتكابها وهو دعاء بالحفظ عن سبب العذاب بعد الدعاء بالحفظ عن المسبب وهو العذاب، وتعقب بأن الأنسل على هذا تقديم هذا الدعاء على ذاك {وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ} أي يوم المؤاخذة {فَقَدْ رَحِمْتَهُ} ويقال على الوجه الأخير ومن تق السيآت يوم العمل أي في الدنيا فقد رحمته في الآخرة وأيد هذا الوجه بأن المتبادر من يومئذ الدنيا لأن {إِذْ} تدل على المضي، وفيه منع ظاهر {وَذَلِكَ} إشارة إلى الرحمة المفهومة من رحمته أو إلى الوقاية المفهومة من فعلها أو إلى مجموعهما، وأمر التذكير على الاحتمالين الأولين وكذا أمر الافراد على الاحتمال الأخير ظاهر {هُوَ الفوز} أي الظفر {العظيم} الذي لا مطمع وراءه لطامع، هذا وإلى كون المراد بالذين تابوا الذين تابوا من الذنوب مطلقًا ذهب الزمخشري، وقال في السيآت على تقدير حذف المضاف هي الصغائر أو الكبائر المتوب عنها، وذكر أن الوقاية منها للتكفير أو قبول التوبة وأن هؤلاء المستغفر لهم تائبون صالحون مثل الملائكة في الطهارة وأن الاستغفار لهم نزلة الشفاعة وفائدته زيادة الكرامة والثواب فلا يضر كونهم موعودين المغفرة والله تعالى لا يخلف الميعاد، وتعقب بأنه لا فائدة في ذكر الرحمة والمبالغة فيها إذا كان المغفور له مثل الملائكة عليهم السلام في الطهارة وأي حاجة إلى الاستغفار فضلًا عن المبالغة، وأن ما قاله في السيآت لا يجوز فإن إسقاط عقوبة الكبيرة بعد التوبة واجب في مذهبه وما كان فعله واجبًا كان طلبه بالدعاء عبثًا قبيحًا عند المعتزلة، وكذا إسقاط عقوبة الصغيرة فلا يحسن طلبه بالدعاء، ولا يجوز أن يكون ذلك لزيادة منفعة لأن ذلك لا يسمى مغفرة، حكى هذا الطيبي عن الإمام ثم قال: فحينئذ يجب القول بأن المراد بالتوبة التوبة عن الشرك كما قال الواحدي فاغفر للذين تابوا عن الشرك واتبعوا سبيلك أي دينك الإسلام، فإن قلت لو لم يكن التوبة من المعاصي مرادًا لكان يكفي أن يقولوا: فاغفر للذين آمنوا ليطابق السابق، قلت: والله تعالى أعلم هو قريب من وضع المظهر موضع المضمر من غير اللفظ السابق وبيانه إن قوله تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْء رَّحْمَةً وَعِلْمًا فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ} [غافر: 7] الآية جار مفصولا عن قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} [غافر: 7] فالآية بيان لكيفية الاستغفار لا لحال المستغفر لهم، ووصفهم المميز يعرف بالذوق، وأما فائدة العدول عن المضمر وانه لم يقل: فاغفر لهم بل قيل: للذين تابوا فهي أن الملائكة كما عللوا الغفران في حق مفيض الخيرات جل شأنه بالعلم الشامل والرحمة الواسعة عللوا قابل الفيض أيضًا بالتوبة عن الشرك وإتباع سبيل الإسلام، فإن قلت: هذه التوبة إنما تصح في حق من سبق شركه على إسلامه دون من ولد مسلمًا ودام عليه، قلت: الآية نازلت في زمن الصحابة وجلهم انتقلوا من الشرك إلى الإسلام ولو قيل: فاغفر لمن لم يشرك لخرجوا فغلب الصحابة رضي الله تعالى عنهم على سنن جميع الأحكام انتهى، ولعمري أن للبحث فيه مجالًا أي مجال.
وفي الكشف إنما اختار الزمخشري ما اختاره على ما قال الواحدي من أن التوبة عن الشرك لأن التوبة عند الاطلاق تنصرف إلى التوبة من الذنوب مطلقًا على أن فيه تكرارًا إذ ذاك لأن التائب عن الشرك هو المسلم، وقد فسر متبع السبيل في هذا القول به وإذا شرط حمله العرش ومن حوله عليهم السلام صلاح التابع وهو الذرية مع ما ورد من قوله تعالى: {بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] فما بال المتبوع، وأنت تعلم أن الصلاح من أخص أوصاف المؤمن وكفاك دعاء إبراهيم ويوسف عليهما السلام في الإلحاق بالصالحين شاهدًا، وأما أنهم غير محتاجين إلى الدعاء فجوابه أنه لا يجب أن يكون للحاجة، ألا ترى إلى قولنا: اللهم صل على سيدنا محمد وما ورد فيه من الفضائل والمعلوم حصوله منه تعالى يحسن طلبه فإن الدعاء في نفسه عبادة ويوجب للداعي والمدعو له من الشرف ما لا يتقاعد عن حصول أصل الثواب، ثم إن الوقاية عن السيئات إن كانت عنى التفكير وقع الكلام في أن السيئات المكفرة ما هي ولا خفاء أن النصوص دالة على تكفير التوبة للسيئات كلها وأن الصغائر مكفرات ما اجتنبت الكبائر فلابد من تخصيصها به كما ذكر وإن كان معناها أن يعفى عنها ولا يؤاخذ بهما كما هو قول الواحدي ومختار الإمام ومن ائتم به فينبغي أن ينظر أن الوقاية في أي المعنيين أظهر وأن قوله تعالى: {وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} وما يفيده من المبالغة على نحو من أدرك مرعى الصمان فد أدرك.
وتعقيبه بقوله سبحانه: {وذلك هُوَ الفوز العظيم} في شأن المقصرين أظهر أو شأن المكفرين، ومن هذا التقرير قد لاح أن هذا الوجه ظاهر هذا السياق وأنه يوافق أصل الفريقين وليس فيه أنه سبحانه يعفو عن الكبائر بلا توبة أو لا يعفو فلا ينافي جوازه من أدلة أخرى إلى آخر ما قال وهو كلام حسن وإن كان في بعضه كحديث التكرار وكون الصلاح في الآية ما هو من أخص أوصاف المؤمن نوع مناقشة، وقد يرجح كون المراد بالتوبة التوبة من الذنوب مطلقًا دون التوبة عن الشرك فقط بأن المتبادر من{وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم} [غافر: 7] وق كل واحد منهم ذلك، ومن المعلوم أنه لابد من نفوذ الوعيد في طائفة من المؤمنين العاصين وتعذيهم في النار فيكون الدعاء بحفظ كل من المؤمنين من العذاب محرمًا.
وقد نصوا على حرمة أن يقال: اللهم اغفر لجميع المؤمنين جميع ذنوبهم لذلك، ولا يلزم ذلك على كون الدعاء للتائبين الصالحين، وحمل الإضافة على العهد بأن يراد بعذاب الجحيم ما كان على سبيل الخلود لا يخفى حاله؛ والاعتراض بلزوم الدعاء علوم الحصول على كون المراد بالتوبة ذلك بخلاف ما إذا أريد بها التوبة عن الشرك فإنه لا يلزم ذلك إذ المعنى عليه فاغفر للذين تابوا عن الشرك ذنوبهم التي لم يتوبوا عنها وغفران تلك الذنوب غير معلوم الحصول قد علم جوابه مما في الكشف، على أن كون الغفران للتائب معلوم الحصول خلافًا أشرنا إليه أول السورة. نعم هذا اللزوم ظاهر في قولهم: {وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} [غافر: 8] ونظير ذلك ما ورد في الدعاء إثر الأذان وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، وقد أجيب عن ذلك بغير ما أشير إليه أيضًا وهو أن سبق الوعد لا يستدعي حصول الموعود بلا توسط دعاء.
وبالجملة لا بأس بحمل التوبة على التوبة من الذنوب مطلقًا ولا يلزم من القول به القول بشيء من أصول المعتزلة فتأمل وأنصف وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (10):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)}
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} شروع في بيان أحوال الكفال بعد دخول النار.
{يُنَادَوْنَ} وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم الأمارة بالسوء التي وقعوا فيما وقعوا باتباع هواها حتى أكلوا أناملهم من المقت كما أخرج ذلك عبد بن حميد عن الحسن.
وفي بعض الآثار أنهم يمقتون أنفسهم حين يقول لهم الشيطان: {فلا َتلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22] وقيل: يمقتونها حين يعلمون أنهم من أصحاب النار، والمنادي الخزنة أو المؤمنون يقولون لهم إعظامًا لحسرتهم: {لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} وهذا معمول للنداء لتضمنه معنى القول كأنه قيل ينادون مقولًا لهم لمقت إلخ أو معمول لقول مقدر بفاء التفسير أي ينادون فيقال لهم: لمقت إلخ، وجعله معمولًا للنداء على حذف الجار وإيصال الفعل بالجملة ليس بشيء، و{مقت} مصدر مضاف إلى الاسم الجليل إضافة المصدر لفاعله، وكذا إضافة المقت الثاني إلى ضمير الخطاب.
وفي الكلام تنازع أو حذف معمول الأول من غير تنازل أي لمقت الله إياكم أو أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم، واللام للابتداء أو للقسم، والمقت أشد البغض؛ والخلف يؤولونه مسندًا إليه تعالى بأشد الإنكار.
{يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} أي إذ يدعوكم الأنبياء ونوابهم {إِلَى الإيمان} فتأبون قبوله {فَتَكْفُرُونَ} وهذا تعليل للحكم أو للمحكوم به فإذ متعلقة بأكبر وكان التعبير بالمضارع للإشارة إلى الاستمرار التجددي كأنه قيل: لمقت الله تعالى أنفسكم أكبر من مقتكم إياها لأنكم دعيتم مرة بعد مرة إلى الايمان فتكرر منكم الكفر، وزمان المقتين واحد على ما هو المتبادر وهو زمان مقتهم أنفسهم الذي حكيناه آنفًا.
ويجوز أن يكون تعليلًا لمقتهم أنفسهم وإذ متعلق قت الثاني فهم مقتوا أنفسهم لأنهم دعوا مرارًا إلى الايمان فكفروا، والتعبير بالمضارع كما في الوجه السابق، وزمان المقتين كذلك، والعلة في الحقيقة إصرارهم على الكفر مع تكرر دعائهم إلى الايمان، وجوز أن يكون تعليلًا لمقت الله و{إِذْ} متعلقة به، ويعلم مما سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى ما عليه وما له، وظاهر صنيع جماعة من الأجلة اختيار كون {إِذْ} ظرفية لا تعليلية فقيل: هي ظرف لمقت الأول، والمعنى لمقت الله تعالى أنفسكم في الدنيا إذ تدعون إلى الايمان فتكفرون أشد من مقتكم إياها اليوم وأنتم في النار أو وأنتم متحققون إنكم من أصحابها فزمان المقتين مختلف، وكون زمان الأول الدنيا وزمان الثاني الآخرة مروي عن الحسن، وأخرجه عبد بن حميد. وابن المنذر عن مجاهد، واعترض عليه غير واحد بلزوم الفصل بين المصدر وما في صلته بأجنبي هو الخبر، وفي أمالي ابن الحاجب لا بأس بذلك لأن الظروف متسع فيها، وقيل: هي لمصدر آخر يدل عليه الأول أو لفعل يدل عليه ذلك كما في البحر.
وفي الكشف فيه أن المقدر لابد له من جزاآت أن استقل ويتسع الخرق وإن جعل بدلًا فحذفه وأعمال المصدر المحذوف لا يتقاعد عن الفصل بالخبر وليس أجنبيًا من كل وجه؛ وتقدير الفعل أي مقتكم الله إذ تدعون أبعد وأبعد، وقيل: هي ظرف لمقت الثاني. واعترض بأنهم لم يمقتوا أنفسهم وقت الدعوة بل في القيامة.
وأجيب بأن الكلام على هذا الوجه من قبيل قول الأمير كرم الله تعالى وجهه: إنما أكلت يوم أكل الثور الأحمر وقو لعمرو بن عدس التميمي لمطلقته دختنوس بنت لقيط وقد سألته لبنًا وكانت مقفرة من الزاد: الصيف ضيعت اللبن وذلك بأن يكون مجازًا بتنزيل وقوع السبب وهو كفرهم وقت الدعوة منزلة وقوع المسبب وهو مقتهم لأنفسهم حين معاينتهم ما حل بهم بسببه، وقيل: إن المراد عليه إذ تبين أنكم دعيتم إلى الايمان المنجي والحق الحقيق بالقبول فأبيتم أو أن المراد بأنفسهم جنسهم من المؤمنين فإنهم كانوا يمقتون المؤمنين في الدنيا إذ يدعون إلى الايمان وهو أبعد التأويلات؛ وقال لمكي: {إِذْ} معمولة لا ذكروا مضمرًا والمراد التحير والتنديم واستحسنه بعضهم وأراه خلاف المتبادر. وادعى صاحب الكشف أن فيه تنافرًا بينًا وعلله بما لم يظهر لي وجهه فتأمل.
وتفسير {مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} قت كل واحد نفسه هو الظاهر، وجوز أن يراد به مقت بعضهم بعضًا فقيل: إن الاتباع يمقتون الرؤساء لما ورطوهم فيه من الكفر والرؤساء يمقتون الاتباع لما أنهم اتبعوهم فحملوا أوزارًا مثل أوزارهم فلا تغفل.

.تفسير الآية رقم (11):

{قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)}
{قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} صفتان لمصدري الفعلين، والتقدير امتنا امتاتتين اثنتين وأحييتنا إحياءتين اثنتين.
وجوز كون المصدرين موتتين وحياتين وهما إما مصدران للفعلين المذكورين أيضًا بحذف الزوائد أو مصدارن لفعلين آخرين يدل عليهما المذكوران فإن الإماتة والإحياء ينبئان عن الموت والحياة حتمًا فكأنه أمتنا فمتنا موتتين اثنتين على طرز قوله:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ** من المال إلا مسحت أو مجلف

أي لم يدع فلم يبق إلا مسحت إلخ، واختلف في المراد بذلك فقيل: أرادوا بالاماتة الأولى خلقهم أمواتًا وبالثانية إماتتهم عند انقضاء آجالهم وبالإحياءة الأولى إحياءتهم بنفخ الروح فيهم وهم في الأرحام وبالثانية إحياءتهم بإعادة أرواحهم إلى أبدانهم للبعث. وأخرج هذا ابن جرير. وابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس وجماعة من الحاكم وصححه عن ابن مسعود، وعبد بن حميد. وابن المنذر عن قتادة، وروى أيضًا عن الضحاك وأبي مالك وجعلوا ذلك نظير آية البقرة {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] والإماتة إن كانت حقيقة في جعل الشيء عادم الحياة سبق بحياة أم لا فالأمر ظاهر وإن كانت حقيقة في تصيير الحياة معدومة بعد أن كانت موجودة كما هو ظاهر كلامهم حيث قالوا: إن صيغة الأفعال وصيغة التفعيل موضوعتان للتصيير أي النقل من حال إلى حال ففي إطلاقها على ما عدا إماته أولى خفاء لاقتضاء ذلك سبق الحياة ولا سبق فيما ذكر، ووجه بأن ذلك من باب المجاز كما قرروه في ضيق فم الركية ووسع أسفلها قالوا: إن الصانع إذا اختار أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء فقد صرف المصنوع الجائز عن الآخرة فجعل صرفه عنه كنقله منه يعني أنه تجوز بالأفعال أو التفعيل الدال على التصيير وهو النقل من حال إلى حال أخرى عن لازمه وهو الصرف عما في حيز الإمكان، ويتبعه جعل الممكن الذي تجوز إرادته نزلة الواقع، وكذا جعل الأمر في ضيق فم الركية مثلًا بإنشائه على الحال الثانية نزلة أمره بنقله عن غيرها، ولذا جعله بعض الأجلة نزلة الاستعارة بالكناية فيكون مجازًا مرسلًا مستتبعًا للاستعارة بالكناية، فالمراد بالاماتة هناك الصرف لا النقل، وذكر بعضهم أنه لابد من القول بعموم المجاز لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في الآية استعمال المشترك في معنييه بناء على زعم أن الصيغة مشتركة بين الصرف والنقل، ومن أجاز ما ذكر لم يحتج للقول بذلك. وفي الكشف آثر جار الله أن إحدى الإماتتين ما ذكر في قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} [البقرة: 28] وإطلاقها عليه من باب المجاز وهو مجاز مستعمل في القرآن، وقد ذكر وجه التجوز، وتحقيق ذلك يبتني على حرف واحد وهو أن الإحياء معناه جعل الشيء حيًا فالمادة الترابية أو النطفية إذا أفيضت عليها الحياة صدق أنها صارت ذات حياة على الحقيقة إذ لا يحتاج إلى سبق موت على الحقيقة بل إلى سبق عدم الحياة فهناك إحياء حقيقة، وأما الإماتة فإن جعل بين الموت والحياة التقابل المشهوري استدعى المسبوقية بالحياة فلا تصح الإماتة قبلها حقيقة، وإن جعل التقابل الحقيقي صحت، لكن الظاهر في الاستعمال بحسب عرفي العرب والعجم أنه مشهوري انتهى، وأراد بالمشهوري والحقيقي ما ذكروه في التقابل بالعدم والملكة فإنهم قالوا: المتقابلان بالعدم والملكة وهما أمران يكون أحدهما وجوديًا والآخر عدم ذلك الوجودي في موضوع قابل له إن اعتبر قبوله بحسب شخصه في وقت اتصافه بالأمر العدمي فهو العدم والملكة المشهوران كالكوسجية فإنها عدم اللحية عما من شأنه الوقت أن يكون ملتحيًا فإن الصبي لا يقال له كوسج، وإن اعتبر قبوله أعم من ذلك بأن لا يقيد بذلك الوقت كعدم اللحية عن الطفل أو يعتبر قبوله بحسب نوعه كالعمى للأكمه أو جنسه القريب كالعمى للعقرب أو البعيد كعدم الحركة الإرادية عن الجبل فإن جنسه البعيد أعني الجسم الذي هو فوق الجماد قابل للحركة الإرادية فهو العدم والملكة الحقيقيات لكن في بناء اقتضاء المسبوقية بالحياة وعدمه على ذلك خفاء، وإن ضم إليه التعبير بصيغة الماضي كما لا يخفى على المتدبر.
ثم وجه تسبب الإماتة مرتين والإحياء كذلك لقوله تعالى: {فاعترفنا بِذُنُوبِنَا} أنهم قد أنكروا البعث فكفروا وتبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى لأن من لم يخش العاقبة تخرق في المعاصي فلما رأوا الإماتة والإحياء قد تكرر عليهم علموا بأن الله تعالى قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم.
وقال السدي: أرادوا بالإماتة الأولى إماتتهم عند انقضاء آجالهم وبالإحياءة الأولى إحياءتهم في القبر للسؤال وبالإماتة الثانية إماتتهم بعد هذه الإحياءة إلى قيام الساعة وبالإحياءة الثانية إحياءتهم للبعث، واعترض عليه بأنه يلزم هذا القائل ثلاث إحياءات فكان ينبغي أن يكون المنزل أحييتنا ثلاثًا فإن ادعى عدم الاعتداد بالإحياءة المعروفة وهي التي كانت في الدنيا لسرعة انصرامها وانقطاع آثارها وأحكامها لزمه أن لا يعتد بالإماتة بعدها.
وقال بعض المحققين في الانتصار له: إن مراد الكفار من هذا القول اعترافهم بما كانوا ينكرونه في الدنيا ويكذبون الأنبياء حين كانوا يدعونهم إلى الايمان بالله تعالى واليوم الآخر لأن قولهم هذا كالجواب عن النداء في قوله تعالى: {يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ الله} [غافر: 10] كأنهم أجابوا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعونا وكنا نعتقد أن لا حياة بعد الموت فالآن نعترف بالموتين والحياتين لما قاسينا من شدائدهما وأحوالهما فالذنب المعترف به تكذيب البعث، ولهذا جعل مرتبًا على القول وإنما ذكروا الإماتتين ليذكروا الإحياءين إذ كلتا الحياتين كانتا منكرتين عندهم دون الحياة المعروفة ومقام هذه الآية غير مقام قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} [البقرة: 28] فإن هذه كما سمعت لبيان الإقرار والاعتراف منهم في الآخرة بما أنكروه في الدنيا وتلك لبيان الامتنان الذي يستدعي شكر المنعم أو لبيان الدلائل لتصرفهم عن الكفر.
ويرجح هذا القول إن أمر إطلاق الاماتة على كلتا الإماتتين ظاهر. وتعقبه في الكشف بأنه لا قرينة في اللفظ تدل على خروج الإحياء الأول مع أن الإطلاق عليه أظهر والمقابلة تنادي على دخوله. ويكفي في الاعتراف إثبات إحياء واحد منهما غير الأول، وقيل: إنما قالوا: {أَمَتَّنَا اثنتين} لأنهما نوعان إحياء البعث وإحياء قبله، ثم إحياء البعث قسمان إحياء في القبر وإحياء عند القيام ولم يذكر تقسيمه لأنهم كانوا منكرين لقسميه.
وتعقب بأن ذكر الإماتة الثانية التي في القبر دليل على أن التقسيم ملحوظ، والمراد التعدد الشخصي لا النوعي نعم هذا يصلح تأييدًا لما اختاره جار الله، وروى عن جمع من السلف من أن الإحياءات وإن كانت ثلاثًا إنما سكت عن الثانية لأنها داخلة في إحياءة البعث قاله صاحب الكشف ثم قال: وعلى هذا فالإماتة على مختار جار الله إماتة قبل الحياة وإماتة بعدها وطويت إماتة القبر كما طويت إحياءته ولك أن تقول إن الإماتة نوع واحد بخلاف الإحياء فروعي التعدد فيها شخصًا بخلافه، وذكر الإماتة الثانية لأنها منكرة عندهم كالحياتين، ويجب الاعتراف بها لا للدلالة على أن التعدد في الإحياء شخصي والحق أن ذلك وجه لكن قوله تعالى: {اثنتين} ظاهر في المرة فلذا آثر من آثر الوجه الأول وإن كانت الإماتة فيه غير ظاهرة ذهابًا إلى أن ذلك مجاز مستعمل في القرآن فتأمل.
وقال الإمام: إن أكثر العلماء احتجوا بهذه الآية في إثبات عذاب القبر وذلك أنهم أثبتوا لأنفسهم وموتتين فإحدى الموتتين مشاهد في الدنيا فلابد من إثبات حياة أخرى في القبر حتى يصير الموت الذي عقيبها موتًا ثانيًا، وذلك يدل على حصول حياة في القبر، وأطال الكلام في تحقيق ذلك والانتصار له، والمنصف يرى أن عذاب القبر ثابت بالأحاديث الصحيحة دون هذه الآية لقيام الوجه المروي عمن سمعت أولًا فيها، وقد قيل: إنه الوجه لكني أظن أن اختيار الزمخشري له لدسيسة اعتزالية، وقال ابن زيد في الآية أريد إحياؤهم نسمًا عند أخذ العهد عليهم من صلب آدم ثم إماتتهم بعد ثم إحياؤهم في الدنيا ثم إماتتهم ثم إحياؤهم وهذا صريح في أن الإحياءات ثلاث، وقد أطلق فيه الإحياء الثالث؛ والأغلب على الظن أنه عني به إحياء البعث، وقيل: التثنية في كلامهم مثلها في قوله تعالى: